في كل مرة يحاولون أن يوهمونك بان الأمور طبيعية , و إن علاقتك بهم هي علاقة طبيعية , و أحيانا تسقى هاته الأوهام بعضا من إكسير الخرافة , يتفنون في التمثيل , يبدعون في رواياتهم حتى فاقة روعتها كتابات ملوك الكلمات , تندهش لما ينحتون مصطلحات لكي تلائم مبتغاهم الذي يحورون حقيقته حتى يعمي الأبصار .
أقف على جانب الطريق , واضعا " القفة " بين ساقي , انتظر مرور الناس بسياراتهم لعل و عسى أن أبيع من خبز أمي , فقد اقترب الدخول المدرسي , فضاعفت أمي في عدد الخبز لنشتري من ثمنه ما يلزمنا للدراسة , أنا متشوق لها , يقولون إن المدرسة عبارة عن عالم آخر , فقد قالت أمي أن من يدخل إليها تتغير حياته كليا , فمثلا لن أكون مضطرا لبيع الخبز مجددا , من يدرس لن يبيت للجوع أبدا , من يجد في دراسته لن يملك أبدا بيتا كالذي نملكه , سيكونبيته دافئا و ألوانه تدخل البهجة للنفس , واسعا و أبوابه من ألواح .
اشعر ببعض البهجة اليوم , و مع هذا اليوم الربيعي و الهواء العليل الذي يدق صنبور السعادة في النفس أحس أن حظي بدأ يتغير , لربما أجد كيسا من النقود , الكثير من النقود , ساترك هاته القفة في مكانها , و أعود للمنزل مسرعا لألاقي امي و اخبرها أننا أصبحنا أثرياء , و أنها لن تكون مضطرة للتفكير في كسب قوتنا مجددا , و لن تتعرض للحروق من طرف " الكوشة " البائسة , لأننا سنهدمها , و سيكون هدمها عبارة عن اجتماع عائلي تلقى فيه كلمة تأبين لتوديع " الكوشة " , و الإخطار بان عهدا جديدا حل على العائلة , سنضع خطة الطريق و نفك ألغازا كثيرة لمشاكلنا التي لطالما أصابت رؤوسنا بالصداع , سنقوم بتوفير كرسي متحرك لأختي الكبرى , و سننتقل من بيتنا إلى مكان أخر , بل سنغادر قريتنا كليا , عندما أجد كيس النقود , سأقوم بشراء الكثير من الألعاب لي و لأخي الصغير , سنقوم باللعب طول النهار , سأشتري ملابسا جديدة , و حذاء جلديا يقي قدمي من أشواك الدنيا , سأقوم بمساعدة الكثير من الأشخاص , و أساعدهم في حملهم الذي اختبره و اعرف معناه حق المعرفة . يا ليتني ألقاها , و استطيع أن اسعد أمي و إخوتي , و أدمر عتبة النحس التي تلازمنا .
اليوم لم تأتي بنت جيراننا " سمية " , لقد تعودت على القدوم يوميا لبيع التين , سمعت أمي تتحدث مع أختي البارحة و تقول لها أن والد " سمية" قد ساءت حالته , و أن طبيب القرية قد اخبر زوجته أن حالة زوجها ميئوس منها فحسب التحاليل التي أجراها مؤخرا تم الإثبات أن المرض قد تفشى في جميع أنحاء الجسد . نصحهم أن ينقلوه إلى العاصمة في اقرب الأجال لكي يخضع لعلاج مكثف و يكشف عن حالته بدقة , انه رجل طيب , لا يستحق كل هذا العذاب , مازلت اسمع صراخه الذي ينطلق كل ليلة , يشعرك بطعم الألم الحقيقي و إن لم تختبره , تحس أن الموت تطوف في الأجواء , تحضر بجوها البارد حاملة أهازيج العالم الآخر , تثبت الأوصال و تحطم الفؤاد لما تحمله من كآبة , أرجو أن يتعافى و يطيب , لعل حالهم تصطلح مجددا , فابنته اصغر مني , و لا ا خ أو أخت لها , فهي مجبرة إجبارا تاما على بيع التين , لان أمها ملازمة لوالدها و لا تستطيع أن تتركه وحده , حالهم تحبطني ,لكن ما يحيرني فلما لم يأتي إخوة " عمي السعيد " لرؤيته أو الاطمئنان عليه , أنا اعلم أن لديه شقيقين أتوا لزيارته العام الفارط , بدوا لي أن حالهم ميسورة , و أنهم لا يملكون عائقا ماديا , لكن في تلك المرة بدا " عمي السعيد " غاضبا , كنت انتظر في " سمية " لكي نلعب في حقلهم , حين خرج معهم و هو يكلمهم بنبرة تأكيد وقطع " ... لن أقوم بأي صفقة , هاذي دار يما و بابا ..." .
بعد خروج " سمية " و نحن في الطريق سألتها عن الشخصين الذي كانا يحدثهما " عمي السعيد " , أجابت أنهما عماها , إخوة والدها , أتوا لكي يقترحوا على والدها أن يبيع لهم المنزل و أرضهم الذي كان أبوها يفلح فيها , لكن والدها رفض ذلك , قالت يومها انه محبط جدا , فحين أتوا ظن انهم اتوا لرؤيته بعد غياب دام عشرة سنوات , لكن الوحوش استدرجتهم رائحة الجيفة , فطمعهم سبب قدومهم لا غير , بعد ثلاثة أيام سمعنا زوجته تصرخ فقد أغمي على زوجها و نقل إلى عيادة القرية , من يومها و حاله تزداد سوءا , حين أفكر في معنى الإخوة التي يتقلدها هؤلاء الأشخاص اشعر بالخزي منها , فبنظري , لا استطيع أن أتغير على إخوتي أبدا ما حييت , إخوتي همي و حالهم شغلي الذي يسكن روحي و كياني .
لقد بعت كل الخبز اليوم , لذا سأعود إلى المنزل , ستفرح أمي بأنني قد قمت ببيعه كله , فهي تشعر بأنه تكريم لمجهودها و تعبها في الوصول إلى مبتغاها الوحيد ألا و هو الحفاظ على ترابط شملنا و استقرار أحوالنا , فمنذ وفاة والدنا أصبحت هي المعيل الوحيد للعائلة , حيث أن عائلتي لم تستفد من تعويض من طرف الدولة اثر وفاة والدي بلغم زرع في الطريق الرابط بين قريتنا و الطريق الوطني ,لم نعرف مصدر اللغم اهو يعود إلى زمن الاستعمار أو قامت بزرعه احد الخلايا الإرهابية , تلقينا وعودا من طرف السلطات لتسوية أوضاعنا لكن الانتظار طال و خيبة أمالنا من جهتهم ,هي ليست تحسرات عن نفسي , بل الأمر الذي يغضبني كيف لهم أن يتركوا امرأة عاجزة تصارع كل هاته الأمور لوحدها , كيف لهم أن يتركوا امرأة لا دخل لها إلى ما كتبه الله لها لسد جوع ثلاثة أفواه إحداها مقعد , كيف لها أن تقوم بتوفير متطلبات الحياة و يدها تشوهت من حروق تلك اللعينة , هذا لا صلة له بالعدل , لا بالرجولة أو الشهامة , فالاستغلال و خدمة المصلحة الشخصية على حساب الغير هو استنزاف لأرواح الغير بطريقة غير مباشرة , ففي سني هذا اشعر بتعب غير عادي في جسمي كل ليلة , اعلم أن جسدي يعاني أكثر مما يتحمل , و اسمع همساته تلاعب أوتار فكري بان وقت الجهد لم يحن بعد , لما كل هذا الاستعجال في الأمور , هي ليست الحلول المناسبة للمشاكل المعيشة , فهذا لن يزيد الطين إلا بلة و يزيد الاسوء سوء .
لقد وصلت إلى المنزل , هههه هو ليس منزلا في الحقيقة , فأساساته هي مجرد ذكريات جميلة بدونها ما قبعت فيه دقيقة أكثر , وجدت أمي نائمة , و أختي تداعب أخي الصغير , ألقيت التحية عليهم , و سالت أختي الكبرى:
-ماذا حضرت أمي للغذاء ؟
فأجابت و فيها ابتسامة خفيفة:
-لم تحضر شيئا , لا يوجد طعام في هذا المنزل سوى الخبز .
فعقبتها متسائلا و في صوتي قطرات من الحزن:
-ولما ؟ أنا في شدة الجوع , و بعد كل هذا الإرهاق لا يجد الشخص ما يأكله , بل و حتى يلاقى بالمتسبب الرئيسي في تعبه , الخبز ... قالت هنالك خبز ....
ردت قائلة أن صاحب المحل امتنع عن البيع لهم حتى يسددوا ما عليهم من ديون سابقة , انه مشكل آخر قد حل علينا من جديد , كأن ما علينا لا يكفينا , تعبت و تعب من معي , و لا لذة في حياة كهذه ... أمي ... أمي ....... استيقظي .... فقد عاد ابنك ..... أمي , عاد إليك و صرح آماله قد تحطم .